توفت حماتي عن عمر يناهز الـ٧١ عامًا، وعلى الرغم من أنها كانت طيبة الأخلاق محبة لله ورسوله ولكنها كانت لا تصلي ولا تصوم ولا تقرأ القرآن طيلة عمرها -حسب قول زوجتي (ابنتها)- وكذلك لم يكتب الله زيارة بيته الحرام سواء للعمرة أو الحج، وبعد وفاتها يريد أبنائها أن يكفروا عن عدم صلاتها وصومها رمضان وعدم قراءتها للقرآن عسى أن يتقبل الله ويزيد من ميزان حسناتها ويسكنها فسيح جناته. أرجو الفتوى فيما يمكن أن يقدمه أبنائها ومحبيها في قبرها.
الـجـــوابأولا:
أولا: من مات وعليه صيام، فله حالتان:
الحالة الأولى: أن يكون قد أفطر لعذر كمرض أو سفر واستمر هذا العذر إلى الموت فذهب جمهور العلماء إلى أنه لا شيء عليه، ولا يصام عنه، ولا يطعم؛ لقوله -تعالى-: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: ٢٨٦].
ولما روى عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم)) متفق عليه واللفظ للبخاري .
وذهب طاووس وقتادة من أهل العلم: إلى أنه يجب على وليه أن يطعم عن كل يوم مسكين وذلك لأنه عاجز فأشبه الشيخ الهرم.
ورد على ذلك بأن الشيخ الهرم عامر الذمة وأنه من أهل العبادات بخلاف
الميت وأن هذه المسألة شبيهة بالحج فمن لم يستطع أداء الحج منذ بلوغه حتى موته فلا شيء عليه.
قال الإمام النووي في " المجموع شرح المهذب " (٦ / ٣٧٢ ط دار الفكر- بيروت ):{(فرع) في مذاهب العلماء فيمن مات وعليه صوم فاته بمرض أو سفر أو غيرهما من الأعذار ولم يتمكن من قضائه حتى مات.
- ذكرنا أن مذهبنا أنه لا شئ عليه ولا يصام عنه ولا يطعم عنه بلا خلاف عندنا وبه قال أبو حنيفة ومالك والجمهور قال العبدري وهو قول العلماء كافة إلا طاوسا وقتادة فقالا يجب أن يطعم عنه لكل يوم مسكين لأنه عاجز فأشبه الشيخ الهرم
- واحتج البيهقي وغيره من أصحابنا لمذهبنا بحديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم " رواه البخاري ومسلم
- واحتجو أيضا بالقياس على الحج كما ذكره المصنف وفرقوا بينه وبين الشيخ الهرم بأن الشيخ عامر الذمة ومن أهل العبادات بخلاف الميت}.
الحالة الثانية: أن يكون قادراً على الصيام ولم يصم أو يكون قد تمكن من القضاء ولم يقض حتى مات، فللفقهاء فيه قولان:
فالجمهور من الحنفية والمالكية والجديد من مذهب الشافعية وهو المذهب عند الحنابلة يرون أنه لا يُصام عنه بعد مماته بل يُطعَم عنه عن كل يوم مدٌّ؛ لأنّ الصوم لا تدخله النّيابة في الحياة فكذلك بعد الوفاة، كالصّلاة.
وذهب أصحاب الحديث وجماعة من السلف كطاوس والحسن البصري والزهري وقتادة وأبو ثور، والإمام الشّافعيّ في القديم، -وهو معتمَد المذهب الشافعي والمختار عند الإمام النّوويّ، وقول أبي الخطّاب من الحنابلة-: إلى أنّه يجوز لوليّه أن يصوم عنه، زاد الشّافعيّة: ويجزئه ذلك عن الإطعام، وتبرأ به ذمّة الميّت، ولا يلزم الوليَّ الصّومُ بل هو إلى اختياره وإن كان أَولَى من الإطعام، لِمَا رواه البخاري ومسلم من حديث عائشة رضي الله عنها عن النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ"، ورويا أيضًا من حديث ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ، أَفَأَقْضِيهِ عَنْهَا؟ فَقَالَ: "لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكَ دَيْنٌ أَكُنْتَ قَاضِيَهُ عَنْهَا؟"، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: "فَدَيْنُ اللهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى".
أما الإمام أحمد والليث وإسحاق وأبو عبيد فقالوا: لا يُصام عن الميت إلا النذر فقط؛ حملاً للعموم في حديث أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها على خصوص حديث ابن عباس رضي الله عنهما الذي بينت رواياتُه أنه صوم نذر.
والمراد بالولي الذي له أن يصوم عن الميت: القريب مطلَقًا، ويجوز للأجنبي عن الميت أن يصوم عنه بإذن وَلِيِّه.
قال الإمام النووي في "شرح مسلم": "وَهَذَا الْقَوْل -يعني جواز قضاء الصوم الواجب عن الميت مطلَقًا- هُوَ الصَّحِيح الْمُخْتَار الَّذِي نَعْتَقِدُهُ، وَهُوَ الَّذِي صَحَّحَهُ مُحَقِّقُو أَصْحَابنَا الْجَامِعُونَ بَيْن الْفِقْه وَالْحَدِيث؛ لِهَذِهِ الأَحَادِيث الصَّحِيحَة الصَّرِيحَة. وَأَمَّا الْحَدِيث الْوَارِد "مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَام أُطْعِمَ عَنْهُ" فَلَيْسَ بِثَابِتٍ، وَلَوْ ثَبَتَ أَمْكَنَ الْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ هَذِهِ الأَحَادِيث بِأَنْ يُحْمَلَ عَلَى جَوَاز الأَمْرَيْنِ؛ فَإِنَّ مَنْ يَقُول بِالصِّيَامِ يَجُوز عِنْده الإِطْعَام، فَثَبَتَ أَنَّ الصَّوَابَ الْمُتَعَيِّنَ تَجْوِيزُ الصِّيَامِ وَتَجْوِيز الإِطْعَام، وَالْوَلِيّ مُخَيَّرٌ بَيْنهمَا، وَالْمُرَاد بِالْوَلِيِّ: الْقَرِيب، سَوَاء كَانَ عَصَبَةً أَوْ وَارِثًا أَوْ غَيْرَهُمَا، وَقِيلَ: الْمُرَاد الْوَارِث، وَقِيلَ: الْعَصَبَة، وَالصَّحِيح الأَوَّل، وَلَوْ صَامَ عَنْهُ أَجْنَبِيٌّ إِنْ كَانَ بِإِذْنِ الْوَلِيّ صَحَّ وَإِلاَّ فَلا فِي الأَصَحّ، وَلا يَجِب عَلَى الْوَلِيّ الصَّوْم عَنْهُ، لَكِنْ يُسْتَحَبّ" اهـ.
ثانيا:
اتفق الفقهاء على أن من مات وعليه صلاة واجبة سقطت عنه في أحكام الدنيا بموته؛ لأن الصلاة عبادة بدنية محضة، فلا ينوب أحد عن الميت في أدائها غير أن السادة الحنفية قالوا: إذا أوصى من عليه صلوات فائتة بالكفارة، فيلزم وليه -وهو من له ولاية التصرف في ماله بولاية أو وراثة- أن يعطي عنه لكل صلاة نصف صاع من بر كالفطرة، وذلك من ثلث ماله كسائر الوصايا، فإن لم يوص بذلك سقطت عنه تلك الصلوات في حق أحكام الدنيا للتعذر، وقال بعض الشافعية -على خلاف المشهور في المذهب- يطعم الولي عن كل صلاة فائتة مدا، وبناء على ذلك فيمكنك أن تخرج عن كل صلاة هذا المقدار المذكور آنفا لعل الله -عز وجل- أن يتقبل منك ويغفر له، والصاع من غالب قوت أهل البلد قمحا أو أرزا أو شعيرا أو غير ذلك من الأقوات، ويقدر الصاع بالوزن بالنسبة للقمح ٢.٥٠٠ كجم، وبالنسبة للأرز المصري بحوالي ٢.٠٤٠ كجم، ومن كان عسيرًا عليه إخراج هذا القدر يجوز له إخراج مد من غالب قوت البلد، والمُدُّ يساوي ربع الصاع، وقدره ٥١٠ جرامًا من الأرز تقريبًا عن كل مسكين، وذلك تقليدًا للشافعية.
قال شمس الدين الرملي الشافعي -رحمه الله تعالى- في "نهاية المحتاج" (٣/ ١٩٢، ط/ دار الفكر -بيروت): [(وَلَوْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صَلَاةٌ أَوْ اعْتِكَافٌ لَمْ يُفْعَلْ ذَلِكَ عَنْهُ وَلَا فِدْيَةَ لَهُ) لِعَدَمِ وُرُودِهَا بَلْ نَقَلَ الْقَاضِي عِيَاضٌ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّهُ لَا يُصَلَّى عَنْهُ].
وقال العلامة الشبراملسي الشافعي -رحمه الله تعالى- في حاشيته على "نهاية المحتاج" (٣/ ١٩٣): [وَفِي الصَّلَاةِ قَوْلٌ أَيْضًا أَنَّهَا تُفْعَلُ عَنْهُ أَوْصَى بِهَا أَوْ لَا. حَكَاهُ الْعَبَّادِيُّ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرُهُ عَنْ إِسْحَاقَ وَعَطَاءٍ لِخَبَرٍ فِيهِ لَكِنَّهُ مَعْلُولٌ، بَلْ نَقَلَ ابْنُ بُرْهَانَ عَنْ الْقَدِيمِ أَنَّهُ يَلْزَمُ الْوَلِيَّ: أَيْ إنْ خَلَّفَ تَرِكَةً أَنْ يُصَلِّيَ عَنْهُ كَالصَّوْمِ، وَوَجَّهَ عَلَيْهِ كَثِيرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ يُطْعِمُ عَنْ كُلِّ صَلَاةٍ مُدًّا، وَاخْتَارَ جَمْعٌ مِنْ مُحَقِّقِي الْمُتَأَخِّرِينَ الْأَوَّلَ. وَفَعَلَ بِهِ السُّبْكِيُّ عَنْ بَعْضِ أَقَارِبِهِ، وَبِمَا تَقَرَّرَ يُعْلَمُ أَنَّ نَقْلَ جَمْعِ شَافِعِيَّةٍ وَغَيْرِهِمْ الْإِجْمَاعَ فِي الْمَنْعِ الْمُرَادُ بِهِ إجْمَاعُ الْأَكْثَرِ، وَقَوْلُهُ وَاخْتَارَ جَمْعٌ مِنْ مُحَقِّقِي الْمُتَأَخِّرِينَ الْأَوَّلَ: أَيْ أَنَّ الصَّلَاةَ تُفْعَلُ عَنْهُ]
ثالثا:
يمكن عمل صدقة جارية أو أي من أفعال الخير وإهداء الثواب لها على التفصيل التالي:
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ)) أخرجه مسلم في صحيحه، وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((إِنَّ مِمَّا يَلْحَقُ الْمُؤْمِنَ مِنْ عَمَلِهِ وَحَسَنَاتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ عِلْمًا عَلَّمَهُ وَنَشَرَهُ، وَوَلَدًا صَالِحًا تَرَكَهُ، وَمُصْحَفًا وَرَّثَهُ، أَوْ مَسْجِدًا بَنَاهُ، أَوْ بَيْتًا لِابْنِ السَّبِيلِ بَنَاهُ، أَوْ نَهْرًا أَجْرَاهُ، أَوْ صَدَقَةً أَخْرَجَهَا مِنْ مَالِهِ فِي صِحَّتِهِ وَحَيَاتِهِ، يَلْحَقُهُ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ))، أخرجه ابن ماجه في سننه. والصدقة الجارية: ما يوقف أصله وينتفع بثمرته، أو ما ينتفع به مع بقاء عينه، كالعقار والأرضين، والحيوان والنخل والآبار ... وما أشبه ذلك.
ومن أمثلة الصدقة الجارية: التبرع لبناء مسجد، أو مكتب لتحفيظ القرآن، أو ملجإ للأيتام، أو مستشفى خيري لعلاج فقراء المسلمين، وما إلى ذلك مما فيه نفع دائم مستمر فترة طويلة للإسلام والمسلمين.
١- يجوز هبة ثواب العمل لأكثر من شخص. قال الإمام ابن عابدين في "رد المحتار على الدر المختار" (٢/ ٢٤٣): [صَرَّحَ عُلَمَاؤُنَا فِي بَابِ الْحَجِّ عَنْ الْغَيْرِ بِأَنَّ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَجْعَلَ ثَوَابَ عَمَلِهِ لِغَيْرِهِ صَلَاةً أَوْ صَوْمًا أَوْ صَدَقَةً أَوْ غَيْرَهَا كَذَا فِي الْهِدَايَةِ، بَلْ فِي زَكَاةِ التَّتَارْخَانِيَّة عَنْ الْمُحِيطِ: الْأَفْضَلُ لِمَنْ يَتَصَدَّقُ نَفْلًا أَنْ يَنْوِيَ لِجَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ لِأَنَّهَا تَصِلُ إلَيْهِمْ وَلَا يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِهِ شَيْءٌ].
٢- يصل ثواب قراءة القرآن والصدقة وغير ذلك من أعمال الخير للميت والحي كذلك.
قال الشيخ البهوتي في "كشاف القناع" (٢/١٤٧-١٤٩، ط / دار الفكر ): [ ( وَكُلُّ قُرْبَةٍ فَعَلَهَا الْمُسْلِمُ وَجُعِلَ ثَوَابُهَا أَوْ بَعْضُهَا كَالنِّصْفِ وَنَحْوِهِ ) كَالثُّلُثِ أَوْ الرُّبُعِ ( لِمُسْلِمٍ حَيٍّ أَوْ مَيِّتٍ جَازَ ) ذَلِكَ ( وَنَفْعُهُ ، ذَلِكَ لِحُصُولِ الثَّوَابِ لَهُ ، حَتَّى لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) ذَكَرَهُ الْمَجْدُ ( مِنْ ) بَيَانٌ لِكُلِّ قُرْبَةٍ ( تَطَوَّعْ وَوَاجِبٌ تَدْخُلُهُ النِّيَابَةُ كَحَجٍّ وَنَحْوِهِ ) كَصَوْمِ نَذْرٍ ( أَوْ لا ) تَدْخُلُهُ النِّيَابَةُ ( كَصَلاةٍ وَكَدُعَاءٍ وَاسْتِغْفَارٍ ، وَصَدَقَةٍ ) وَعِتْقٍ ( وَأُضْحِيَّةٍ وَأَدَاءِ دَيْنٍ وَصَوْمٍ وَكَذَا قِرَاءَةٌ وَغَيْرُهَا ) ].
المصدر: دار الإفتاء المصرية