اذا فشلت أو رسبت في امتحان دراسي هام هل يعتبر ذلك بلاء من الله ؟ أو تطهير للذنوب وسأجزي إذا صبرت عليه؟ أم هو بسبب تقصيري في الدراسة؛ ولا شأن له بالدين؟الـجـــوابإذا قصرت فلا مانع من أن يكون الابتلاء بسبب تقصيرك، وإذا لم تقصر فيكون ابتلاء لرفعة الدرجات، والابتلاء للمؤمن يكون لرفع درجته، سواء كان عاصيًا أو مطيعًا، فإن كان عاصيًا كان سببًا لمغفرة ذنوبه، وإذا كان مطيعًا كان سببًا لزيادة حسناته، فكلاهما رفع للدرجات، ولا يعني الابتلاء غضب الله تعالى أو رضاه، فالله -سبحانه وتعالى- يبتلي أحب الناس إليه حتى يرفع درجتهم، فعن سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ-رضي الله عنه-، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً؟ قَالَ: ((الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ، يُبْتَلَى الْعَبْدُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ صُلْبًا، اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ، ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَمَا يَبْرَحُ الْبَلَاءُ بِالْعَبْدِ، حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ، وَمَا عَلَيْهِ مِنْ خَطِيئَةٍ)) أخرجه ابن ماجه في سننه.
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ-رضي الله عنه-: عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: ((مَا يُصِيبُ المُسْلِمَ، مِنْ نَصَبٍ وَلاَ وَصَبٍ، وَلاَ هَمٍّ وَلاَ حُزْنٍ وَلاَ أَذًى وَلاَ غَمٍّ، حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا، إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ)) أخرجه البخاري في صحيحه.
وإن الله سبحانه وتعالى متفضل علينا بالخلق والتكليف والإحسان والنعمة والامتنان، فهو سبحانه قادر على أن يصب على عباده أنواع العذاب ويبتليهم بضروب الآلام والأوصاب، ولو فعل ذلك لكان منه عدلا، ولم يكن منه قبيحا ولا ظلما؛ إذ لا يجب عليه لأحد فعل، ولا يتصور منه ظلم فيما يملكه، ولا يجب لأحد عليه حق إلا ما تفضل به سبحانه.
والأصل أن يسلم الإنسان المسلم أموره لله، فنحن جميعا عبيده سبحانه وتعالى، ولا يجوز الاعتراض على قضائه وقدره؛ إذ كيف للعاجز الجاهل أن يعترض على تدبير أحكم الحاكمين لشؤون خلقه وما يصيبهم من سراء أو ضراء؟ فالدنيا دار ابتلاء واختبار، وليست دار راحة ونعيم أو عقاب وحساب.
فعلى المسلم الذي لم يمن عليه الله سبحانه وتعالى بالإلهام الروحاني أو بالتأمل العقلي العميق أن يسلم بأن الحكمة من نزول الأمراض والأوصاب بالعباد سواء كانوا في مرحلة النشء أو غيرها من البلوغ والكبر يعلمها ربنا سبحانه وتعالى، قال جل شأنه: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: ٢١٦]
أما من سما عقله وتجرد في تفكيره وتأملاته عن مرتبة عوام الناس وصار مقصده بعد الإيمان بالله عز وجل أن يعايش أثر صفاته سبحانه وتعالى في هذا الكون وفي قضائه وقدره، فله أن يتأمل في أسرار الابتلاءات بالسراء والضراء، ليزداد بذلك إيمانا مع إيمانه، وسيلهمه الله عز وجل ما تطمئن به نفسه ويسكن به إلى الله قلبه، وستنقلب دائما في عينه المحنة إلى منحة لما يترتب عليها من منافع لا يقف عليها الإنسان إلا بأن ينير الله تعالى بصيرته، ولولا أن الدنيا دار امتحان لأدرك كل الناس عظمة الله عز وجل الظاهرة الباهرة في كل شيء دون حاجة لتأمل أو تفكير، ولكن كما أنه الظاهر بقهره وعظمته فهو الباطن بلطفه وحكمته جل جلاله.
وعلى المسلم إحسان الظن بالله في كل ما يصيبه من سراء أو ضراء، فعَنْ صُهَيْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ» (رواه مسلم).
وعَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا مَاتَ وَلَدُ العَبْدِ قَالَ اللَّهُ لِمَلَائِكَتِهِ: قَبَضْتُمْ وَلَدَ عَبْدِي، فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، فَيَقُولُ: قَبَضْتُمْ ثَمَرَةَ فُؤَادِهِ، فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، فَيَقُولُ: مَاذَا قَالَ عَبْدِي؟ فَيَقُولُونَ: حَمِدَكَ وَاسْتَرْجَعَ، فَيَقُولُ اللَّهُ: ابْنُوا لِعَبْدِي بَيْتًا فِي الجَنَّةِ، وَسَمُّوهُ بَيْتَ الحَمْدِ» (رواه الترمذي).
إن الإنسان المنصف العاقل يعلم جيدا أن لهذا الكون نظاما بديعا يدل على عظمة خالقه وأن لهذا الكون مدبرا عليما حكيما، وإذا كان الإنسان قد لا يدرك الحكمة من نقلات البيادق على رقعة الشطرنج إذا كان يحركها لاعب خبير مُعترَف بكفاءته العالية، نقول إذا كان الإنسان غير الخبير لا يمكنه التشكك أو الاعتراض على طريقة خبير الشطرنج في لعبة ونقل القطع على الرقعة، فكيف يستسيغ أن يتشكك في حكمة الله عز وجل أو يعترض عليها لأنه لا يدركها بعقله، فهل تبلغ حكمة الإنسان أي مرتبة إذا ما قورنت بحكمة الله سبحانه؟! إذن فليس للإنسان أن يعترض على قضاء الله وقدره وحكمته ولا أن يطلبها بمجرد عقله، فمعرفة ذلك هي فتح إلهي من فتوح المقربين وصفوة الصالحين ممن يزيدهم ذلك إيمانا ونورا فوق إيمانهم وأنوارهم.
والحياة مليئة بالمنن والمحن، فمتى كنا في منة شكرنا، ومتى كنا في محنة صبرنا، ولا تواجه المحن إلا بالصبر واللجوء إلى الله تعالى، وكثرة ذكره وكثرة الاستغفار، وكثرة الرجوع إليه، فإن الله تعالى لا يمتحن عبيده إلا لينظر أيعودون إليه أم لا، وليس أفضل في مثل هذه الأزمات إلا مواجهتها بالصبر والذكر، فاذكري الله تعالى ذكراً كثيرا واصبري وأبشري برحمة الله ورضوانه ونعيم جنات الخلود، قال سبحانه: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأعراف: ٣٢]، وقال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: ١٠]، وقال سبحانه: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (١٥٥) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (١٥٦) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: ١٥٥ - ١٥٧].
إن ثواب الصبر على البلايا وعن المعصية كبير الشأن جليل القدر، ومكافأة الله عليه عظيمة، وتصلك في الدنيا قبل الآخرة، ومن أعظم ما يكافأ به الصابر الراضي عن الله في قضائه وقدره: "معيَّة الله عز وجل" ، و"محبة الله تبارك وتعالى"، قال رب العالمين سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: ١٥٣]، وقال جل جلاله: {فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: ١٤٦]، وقال سبحانه: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (١٥٥) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (١٥٦) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: ١٥٥ - ١٥٧]، وقال تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: ١٠].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من يرد الله به خيرا يصب منه" (رواه البخاري)، قوله: (يصب منه): أي يبتله بالمصائب ليطهره من الذنوب في الدنيا فيلقى الله تعالى نقيا.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله حتى يلقى الله تعالى وما عليه خطيئة" (رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله تعالى إذا أحب قوما ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط "(رواه الترمذي وقال: حديث حسن).
وفي الحديث الشريف: «أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل يُبْتَلى النَّاسُ على قَدْرِ دِينهِمْ فَمَنْ ثَخُنَ دِينهُ اشْتَدَّ بَلاؤُهُ ومَنْ ضَعُفَ دِينُهُ ضَعُفَ بَلاَؤُهُ وإِنّ الرَّجُلَ لَيُصِيبُهُ البَلاءُ حَتَّى يَمْشِي فِي النّاسِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئةٌ» (رواه ابن حبان).
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مَوْعُوكٌ، عَلَيْهِ قَطِيفَةٌ، فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ، فَوَجَدَ حَرَارَتَهَا فَوْقَ الْقَطِيفَةِ، فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: مَا أَشَدَّ حُمَّاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «إِنَّا كَذَلِكَ، يَشْتَدُّ عَلَيْنَا الْبَلَاءُ، وَيُضَاعَفُ لَنَا الْأَجْرُ» ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً؟ قَالَ: «الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الصَّالِحُونَ، وَقَدْ كَانَ أَحَدُهُمْ يُبْتَلَى بِالْفَقْرِ حَتَّى مَا يَجِدُ إِلَّا الْعَبَاءَةَ يَجُوبُهَا فَيَلْبَسُهَا، وَيُبْتَلَى بِالْقُمَّلِ حَتَّى يَقْتُلَهُ، وَلَأَحَدُهُمْ كَانَ أَشَدَّ فَرَحًا بِالْبَلَاءِ مِنْ أَحَدِكُمْ بِالْعَطَاءِ» (رواه الحاكم، والبيهقي، والبخاري في الأدب المفرد).
الدعاء قدر من أقدار الله -تعالى- يمكن أن يتغير به قدر آخر يريد العبد دفعه، فإذا خشي الإنسان أن يصيبه مكروه ما، أو أراد أن يغير أمرا واقعا يكرهه فمن المستحب له أن يدعو الله -تعالى- بأن يصرف ذلك عنه، ففي الحديث الشريف: عَنْ سَلْمَانَ -وهو الفارسي رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((لَا يَرُدُّ القَضَاءَ إِلَّا الدُّعَاءُ، وَلَا يَزِيدُ فِي العُمْرِ إِلَّا البِرُّ)) أخرجه الترمذي. وعَنْ ثَوْبَانَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «لَا يَزِيدُ فِي الْعُمْرِ إِلَّا الْبِرُّ، وَلَا يَرُدُّ الْقَدَرَ إِلَّا الدُّعَاءُ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِخَطِيئَةٍ يَعْمَلُهَا» أخرجه أحمد وابن ماجه.
والعبد لايدري ما كتب له، ولذلك ينبغي ألا يتهاون بالدعاء قبل نزول البلاء أو بعد نزوله، فعَنْ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((مَنْ فُتِحَ لَهُ مِنْكُمْ بَابُ الدُّعَاءِ فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الرَّحْمَةِ، وَمَا سُئِلَ اللَّهُ شَيْئًا يَعْنِي أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ يُسْأَلَ العَافِيَةَ)). وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: ((إِنَّ الدُّعَاءَ يَنْفَعُ مِمَّا نَزَلَ وَمِمَّا لَمْ يَنْزِلْ فَعَلَيْكُمْ عِبَادَ اللَّهِ بِالدُّعَاءِ)) أخرجه الترمذي.
وعن عائشة -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لَا يُغْنِي حَذَرٌ مِنْ قَدَرٍ، وَالدُّعَاءُ يَنْفَعُ مِمَّا نَزَلَ، وَمِمَّا لَمْ يَنْزِلْ، وَإِنَّ الْبَلَاءَ لَيَنْزِلُ فَيَتَلَقَّاهُ الدُّعَاءُ فَيَعْتَلِجَانِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)) أخرجه الحاكم في "المستدرك". يعتلجان أَي: يتصارعان ويتدافعان.
قال الحافظ ابن رجب الحنبلي في "لطائف المعارف" (ص: ٧٦): [قال ابن عباس: لا ينفع الحذر من القدر ولكن الله يمحو بالدعاء ما يشاء من القدر وعنه قال: الدعاء يدفع القدر وهو إذا دفع القدر فهو من القدر وهذا كقول النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الأدوية والرقى هل ترد من قدر الله شيئا؟ قال: "هي من قدر الله تعالى" وكذلك قال عمر رضي الله عنه لما رجع من الطاعون فقال له أبو عبيدة: أفرارا من قدر الله؟ فقال عمر: نفر من قدر الله إلى قدر الله فإن الله تعالى قدر المقادير ويقدر ما يدفع بعضها قبل وقوعه وكذلك الأذكار المشروعة تدفع البلاء. وفي
حديث عثمان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: " من قال حين يصبح ويمسي: بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم لم يصبه بلاء"].
إن الدعاء عبادة في حد ذاته، بل هو العبادة كما جاء في الحديث الشريف: عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ -رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: ((إِنَّ الدُّعَاءَ هُوَ الْعِبَادَةُ ثُمَّ قَرَأَ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ})) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه.
وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((يَقُولُ اللَّهُ -تَعَالَى-: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي)).
وروى الترمذي في سننه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((ادْعُوا اللَّهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالإِجَابَةِ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لَاهٍ)).
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو -رضي الله عنهما-، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: ((الْقُلُوبُ أَوْعِيَةٌ، وَبَعْضُهَا أَوْعَى مِنْ بَعْضٍ، فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، أَيُّهَا النَّاسُ، فَاسْأَلُوهُ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالْإِجَابَةِ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَجِيبُ لِعَبْدٍ دَعَاهُ عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ غَافِلٍ)) رواه أحمد وغيره.
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ -رضي الله عنه-: أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: ((مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا إِثْمٌ، وَلَا قَطِيعَةُ رَحِمٍ، إِلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ بِهَا إِحْدَى ثَلَاثٍ: إِمَّا أَنْ يُعَجِّلَ لَهُ دَعْوَتَهُ، وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَهَا فِي الْآخِرَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهَا ". قَالُوا: إِذًا نُكْثِرُ، قَالَ: "اللَّهُ أَكْثَرُ")) رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو يَعْلَى بِنَحْوِهِ، وَالْبَزَّارُ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ.
والمسلم لا يقول: دعوت الله فلم يستجب لي؛ لأنه على يقين أن دعوته لا مفر قد أصابت شيئًا من عدة وجوه؛ فهي إما أن تُستجاب له، فيقضي الله -عز وجل- حاجته التي يريدها، أو يرفع الله بمثل هذه الدعوة عنه بلاء كاد أن يصيبه، أو يدخرها الله -عز وجل- لعبده المؤمن في الآخرة، فيُعطى من الحسنات يوم القيامة ما يعادل استجابة هذه الدعوة له، وآنذاك يتمنى لو أن الله -عز وجل- ادخر له كل الدعوات إلى يوم القيامة.
ولقبول الدعاء ثلاثة شروط أساسية:
الشرط الأول: دعاء الله بصدق وإخلاص، لأن الدعاء عبادة، قال الله -تعالى-: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:٦٠]، وقال -تعالى-: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البينة: ٥].
الشرط الثاني: ألا يدعو المرء بإثم أو قطيعة رحم، لما رواه مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم، ما لم يستعجل)). قيل: يا رسول الله ما الاستعجال؟ قال: ((يقول: قد دعوت، وقد دعوت، فلم أر يستجاب لي، فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء)).
الثالث: أن يدعو بقلب حاضر، موقن بالإجابة. وعند تخلف هذه الشروط أو أحدها لا يستجيب الله الدعاء، فتوفرها شرط، وانتفاؤها مانع.
وهناك أسباب لإجابة الدعاء ينبغي للداعي مراعاتها وهي:
الأول: افتتاح الدعاء بحمد الله والثناء عليه، والصلاة والسلام على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وختمه بذلك.
الثاني: رفع اليدين.
الثالث: عدم التردد، بل ينبغي للداعي أن يعزم على الله ويلح عليه.
الرابع: تحري أوقات الإجابة كالثلث الأخير من الليل، وبين الأذان والإقامة، وعند الإفطار من الصيام، وغير ذلك.
الخامس: أكل الطيبات واجتناب المحرمات.
ومن الدعاء ما ثبت بالدليل الشرعي أنه مستجاب من ذلك:
١ - دعوة ذي النون: فقد أخرج الإمام أحمد والترمذي وغيرهما أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((دعوة ذي النون إذ هو في بطن الحوت لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، فإنه لم يدع بها مسلم ربه في شيء قط إلا استجاب له)).
٢ - عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: كنت جالساً مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ورجل قائم يصلي فلما ركع وسجد تشهد ودعا فقال في دعائه: اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان بديع السموات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم إني أسألك. فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه: ((أتدرون بم دعا))، قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ((والذي نفسي بيده لقد دعا الله باسمه العظيم الذي إذا دُعي به أجاب وإذا سُئل به أعطى)) رواه النسائي والإمام أحمد.
وهناك مواطن يستجاب فيها الدعاء ومنها:
١ - أثناء السجود، فقد أخرج مسلم وأصحاب السنن أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((ألا وإني نهيت أن أقرأ القرآن راكعاً أو ساجداً، فأما الركوع فعظموا فيه الرب عز وجل، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فَقَمِنٌ أن يستجاب لكم)).
٢ - ساعة من يوم الجمعة، ففي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذكر يوم الجمعة فقال: ((فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلي يسأل الله تعالى شيئاً إلا أعطاه إياه)) وأشار بيده يقللها.
٣ - ثلث الليل الآخير، فقد أخرج مسلم وأصحاب السنن أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إذا مضى شطر الليل أو ثلثاه ينزل الله -تبارك وتعالى- إلى السماء الدنيا فيقول: هل من سائل يُعطى، هل من داع يُستجاب له، هل من مستغفر يُغفر له، حتى ينفجر الصبح)).
وعليك بالإلحاح في الدعاء دائماً فإن الله يستجيب لك ولا تترك الدعاء إذا لم تجد أمارة لاستجابة الدعاء فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول دعوت فلم يُستجب لي)) أخرجه البخاري ومسلم.
وللدعاء موانع تمنع استجابته فعلى المسلم أن يحذر منها، من ذلك:
- تناول الحرام أكلاً وشربا ولبسا فقد ذكر الإمام مسلم في صحيحه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء ويقول يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك".
- الدعاء بالإثم أو قطيعة الرحم أو الاستعجال وترك الدعاء.
وما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، ولله الحكمة البالغة في أفعاله وأقواله وقضائه وقدره، والله لطيف بعباده يرزق من يشاء وهو القوي العزيز، أما الإنسان فقد خلق من عَجَل كما قال -تعالى-{خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ} [الأنبياء: ٣٧] أي: كأنه خلق منه لفرط استعجاله وقلة ثباته، وهو لا يعلم إلا ظواهر الأمور دون حقائقها وبواطنها، ولهذا فقد يتعلق بشيء يظن أن الخير كله فيه ولا يكون في حقيقة الأمر كذلك بالنسبة له، بل يكون هناك ما هو خير له منه، ولهذا فإجابة الدعاء لا يشترط أن تكون بإعطاء السائل ما يسأله تماما وإنما قد يدفع بها عنه بلية ويكون ذلك خيرا له من أن يأخذ عين ما سأل، وقد يدخر له تلبية الدعاء في الآخرة بما هو خير له من الدنيا وما فيها، وعلى الإنسان أن يحسن الظن في الله -عز وجل-، وأن يرضى بما قضاه، وأن يتوكل عليه حق التوكل فما الدعاء إلا للتعبد والأخذ بالأسباب، فلا يتعلق القلب كل التعلق بما يطلبه، وإنما بمن يسمع دعاءه ويلبيه على خير الوجوه، والله -تعالى- أعلم.
المصدر: دار الإفتاء المصرية